أورنا بن دور

ترجمت: إيمان أيوب

 "بقدر ما قد يبدوالامر متناقضًا للنفس المتحضرة ، فإن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها فهم الحياة البشرية بالمنظورالأعمق، هي بتركيز تعليمنا على سياق الأحداث العالمية من خلال التمعن بالإنسان نفسه عبر التاريخ. لا ينبغي أن يُنظر إلى الإنسان على أنه ينتمي إلى حقبة واحدة فقط ، كما لو أنه يحيى حياة أرضية واحدة بحتة. بإستطلاعنا حول الانسان ، علينا ان نعرف بأن الشخصية الفردية تنتقل من كينونة أرضية الى آخرى ، وأنها في الفترة التي تفصل ما بين الموت والولادة من جديد ، تعالج وتغير الجوهر المؤقت الممنوح لها في  المستوى اللاوعي للحياة الأرضية ، وإن كل هذا مرتبط بـالتشكيل الفعلي للمصير. لأن تشكيل المصير لا يتكون في الوعي الواضح للعقل ، بل انه محبوك مع اللا وعي"

שטיינר,יחסי קרמה ב, 2007, הרצאה 15, עמ’ 110 (شتاينر،علاقات كارمية ب،2007،محاضرة 15،ص110)

 

لقد تم فتح أعماق اللاوعي للعالم في نهاية القرن العشرين من قبل المحلل النفسي والمفكر سيغموند فرويد. لقد كان فرويد من أوائل الذين كشفوا حقيقة أن الطبقة المرئية من الوعي ليست سوى "قمة لجبل جليدي" بباطن الأرض ، تهتز وتعصف داخله حياة نفسية غنية ومركبة. هذه الحياة تدير الإنسان – مشاعره وسلوكياته وأفكاره – "من الأسفل" ، وتؤثر بعمق على حياته.

على النقيض من فرويد والذي ادعى أن اللاوعي هو موطن كل الشهوات الممنوعة والغرائز المكبوتة، فإن رودولف شتاينر – والذي كان نشطًا أيضًا في تلك الفترة في أوائل القرن العشرين – رأى باللاوعي تجلي للكارما الآتيه من ماضي الانسان والتي توجّه أفعاله.

فإن الكارما تخلق بحياة الانسان أحداثًا ولقاءات التي تتيح  له ان يلتقي بمصيره ، ويستمر بالتطور من مسار حياة إلى آخرى مصححاً لمزاياه. 

يَعتبر شتاينرعلم الكارما من أهم علوم المعرفة للبشرية.هذه المعرفة التي اختفت لآلاف السنين ، ويجب الكشف عنها مرة أخرى في عصرنا. بعد قرون عديدة من التفكير المادي – والذي أنكر وجود العالم الروحي وسيرورة حياة متكررة على وجه الأرض – من المفترض أن تُعيد البشرية اكتشاف مصدرها الروحاني واكتشاف العلاقة بين العالم الأرضي/ الدنيوي والعالم الروحاني والتأثير المتبادل بينهما. فقط هذه المعرفة تتيح للفرد المعرفة الحقيقية لذاته. فعصرنا الحالي هو نهاية مرحلة ال "كالي يوغا" – فترة الظلام الروحي، وفيه أعيد فتح أبواب العالم الروحاني للإنسان. الجزاء الكارمي هناك عدة بوابات يمكن الدخول عبرها لفهم الكارما والحياة المتكررة. إحدى هذه البوابات هي "الأمر أو الفرض الكارمي  وضرورة تحققه". يوجد بالكون ضرورة أو وجوب كوني ، بموجبه كل عمل غير أخلاقي يتلوه جزاء ، والذي يهدف الى تصحيح وترويض النفس. يسمى هذا التصحيح: الجزاء الكارمي ، أو بعبارة أخرى – التوازن الكارمي. لنعطي مثال عن حدث قام فيه الشخص "أ" بإيذاء الشخص "ب" خلال فترة حياة معينه ؛ ففي العالم الروحي ما بعد الموت ، وما بين مسار حياة واحدة والمسار اللاحق ، تتشكل بنفس هذا المرء لزومية  تصحيح أفعاله.  يتم اتخاذ هذا القرار لأنه في العالم الروحي تنكشف له قيمته الموضوعية كنفس وكروح،  فإن كل عمل سيء تجاه الآخرين وتجاه العالم "يلوث" النفس وينتقص من كمالها.خلال فترة معينة لوجودنا بالعالم الروحي ، والمعروف باسم: كامالوكا ، نشعر بالألم الذي تسببنا فيه للآخرين كانما هو ألمنا الخاص تماماً. إن هذه التجربة ، وفهمنا بأننا سنبقى مع هذا النقص أو العيوب إذا لم ننجح في تصحيح الفعل السيء ، يوّلد بداخلنا الرغبة لنقوم بالتصحيح  للحصول على 'جزاء كارمي ' والذي يساعدنا على التحرر من تأثير العمل السيء علينا.الأفعال الغير أخلاقية، أفعال ظالمة ومسيئة تجاه الآخر ،وما هي سوى أفعال يتعامل فيها الشخص مع الآخر على أنه غرض  يستغله لحاجته  أو ينكّل به، وعلى الرغم من أن القرار بشأن الجزاء الكارمي يُتخذ في العالم الروحي ، إلا أن تنفيذه لا يمكن أن يحدث إلا بالعالم الأرضي ، عند عودة الإنسان لحياة أخرى.يتخذ الإنسان قرارات التصحيح والتوازن بمساعدة التدرجات الروحية العليا والتي رافقته منذ خلقه. هذه التدرجات الهرمية هي تعبيرات مختلفة عن الأبدية ، ويُشار إليها في العقيدة السرية اليهودية الكابالا(قبالة) باسم تعددات 

 

ما هو إذن الفرض الكارمي؟

 الكلمة فرض تعني أن الأمر لا يخضع للاختيار الحر للإنسان ، ويتم إلزامه وفرضه عليه خلال حياته.
عند تقمص الإنسان حياة جديدة ، فإن أفعاله السيئة من حياته السابقة تُحبك بداخلها كذاكرة كارمية، هذه الذاكرة تدفعه للبحث عن التصحيح، وهذا التصحيح يتم من خلال أشخاص آخرين وأحداث مصيرية بسيرورته الشخصية.  هذه الأحداث وهؤلاء الأشخاص "يطبعون" بداخله معاناة موازِنة، ومن دون أن يختارهذا في وعيه الأرضي. يأتي الفرض كما لو كان "من الخارج"، فينغمس الشخص وسط واقع معين والذي ينبئُهُ بأنه : " هو ذا فرضك الكارمي".

 

فرائض كارمية مطبوعة بالإنسان حتى جيل 21

"في خلال الحقبات الثلاثة الأولى من حياتنا (حتى سن 21) تُخبرنا الملائكة , ملائكة الأعلى والملائكة الشخصية  باللاوعي بأن: كل الذي قد جلبته من فترات قديمة، ومن كينونة حياة أرضية سابقة، يتوجب عليك أخذه على عاتقك ".

שטיינר, יחסי קרמה ב’, 2007, הרצאה 23, עמ’ 170(شتاينر، علاقات كارمية ب، محاضرة 23، ص170)

 

ما بين سن 21-49 على الفروض الكارمية المُلزمة أن تتحقق. ما المقصود بهذا؟! الفرض عينه الذي انطبع بالفرد حتى سن ال 21 ، سوف يتكرر مرارًا وتكرارًا كتجسيد كارمي ، وبالتالي سيتم تسجيله وحفره في نفس وجسد الفرد، بحيث يعي ويفهم هذا الفرض للعمق، ولحقيقة أنه جزء لا يتجزأ من عملية التصحيح وبأنه خاص بالكارما وبسيرته الذاتيه الشخصية. فما الطفولة إلا خُلاصة (عودة مختزلة) لمسار الحياة السابقه، وكل شخص يأتي إلى العالم مستعيدا شعوره لمكانته وللإيماءات النفسيه المعينة والتي تتعلق بمسار حياته السابق.على سبيل المثال ، لنفترض أن شخصًا معينًا كان ينتمي بحياته السابقه إلى طبقة عليا كالنبلاء أو الكهنة وشعر بأنه مترفّع عن باقي الناس. بحكم وضعه ، ربما كان يتمتع بخدمات الآخرين بحيث يعيش حياة الفكر والدراسة بكل حرية، دونما الحاجة إلى أن يعمل من أجل لقمة العيش والتواصل الحقيقي مع العالم المادي.على الرغم من أنه في الحياة السابقة كان بإمكانه تحقيق إنجازات عالية على مستويات مختلفة لدرجة الوصول الى رؤى روحية عالية ، فقد يكون هذا الشخص غير حسّاس لأفراد الطبقة الدُنيا الذين يحيطون به ويخدمونه ، ويعاملهم على أنهم أقل شأناً. من ناحية أخلاقية إنتُقِص أخلاقياً.فبعد موته ، وفي عوالم الروح ما بين الموت والولادة الجديدة ، سيعي لا أخلاقية أفعاله ، وحقيقة أن قيمته الكونية المطلقة قد تراجعت – ويقرر الإصلاح.وفقًا لقانون الخُلاصة ، خلال حياة أخرى ، سيعود نفس الشخص إلى العالم بشعور من الإستعلاء والتفرّد ، كمؤشر نفسي يدل على مكانته الموضوعيه في الحياة السابقة. على سبيل المثال ، كولد سوف يدرك قيمتة الذاتية ، ويشعر بأنه أكثر ذكاءً من الآخرين ، وشعوره الأساسي سيكون السيطرة والقوة. سيكون هذا الشعور طبيعيًا بالنسبة له ، لأنه رافقه من حياة سابقة ، ويتعزز أيضًا نتيجةً لردود فعل الأفراد تجاهه – الأسرة المقربة، المعلمين وأحيانًا مجموعة الأقران أيضًا.سيكون الفرض الكارمي لمثل هذا الشخص على شكل السقوط من المكانة العليا – حتى وهو طفل. فإن الخلل الأخلاقي في الحياة السابقة كان سلوك متعالي وغير مراعي للآخرين ، والنابع من الشعور بالتفوق وعدم إبداء الحساسية.  السقوط من المكانة العليا سيتسبب بشعورالألم لدى الطفل والذي سبّبه للآخرين في حياته السابقة. يمكن لهذا أن يتخذ شكل الإذلال ، النبذ ​، ألمسّ بالكرامة والشعور بالعجز، وهي ذاتها المشاعر التي تسبب بها للآخرين بحياته السابقة. 

 

حدث بيوغرافي من السيرة الذاتية

هنيا فتاة ذكية ، "الأولى في الفصل" ، مفضلة لدى المعلمات وتتلقى منهن معاملة خاصة . إرادة القدر كانت أن تخرج معلمة هنيا لإجازة ولادة ، والمعلمة البديلة لم تلاحظ تميّز هنيا  ولم تمنحها معاملة خاصة. في الواقع ، كان هناك تلميح بسلوك المعلمة البديلة للنبذ تجاه الطريقة التي برزت فيها هنيا بالصف.

هنيا شعرت بالإذلال والفشل، المعلمة البديلة جعلتها تشعر أنها ليست ذكية بما يكفي وليست مميزة على الإطلاق، هذا هو فرضها الكارمي.

من المهم أن نلاحظ أن تفسيرنا العاطفي للأحداث الكارمية يرتبط بالفرض الكارمي، بحيث يهدف الحدث إلى إثارة الشعور.

معظم الفروض الكارمية هي تسجيل دقيق إلى حد ما للقَدَر. ستَطبع هذه التسجيلات الدقيقة نفسها لاحقًا في الحياة ما بعد سن ال21 ، وبشكل أعمق كتحقّق أو كتجسُّد كارمي.

إن الأولاد الذين يتماسكون ويصمدون أمام الفرض الكارمي ولا ينهارون نفسيا، فهم يستطيعون الاستمرار في تحمل المعاناة حتى يأتي اليوم الذي يجدون له معنى.

بحالات معينه تتغلب الفروض الكارمية على الطفل ولا يستطيع تحملها. يمكن أن يظهر هذا بطرق مختلفة هدفها واحد ، وهو تضليل الشعور بالمعاناة من خلال حالات مثل الانفصال العاطفي والميل للتوحد ، الأمراض الخطيرة ، والإدمان منذ مرحلة المراهقة. يمكن أن يتطور الإدمان والأمراض أيضًا في فترات لاحقة ، عندما يعود الفرض الكارمي كتحقّق\ تجسُّد للكارما.

 

التجسُّد/ التحقُّق الكارمي

 "من ناحية أخرى ، عندما نوجّه انتباهنا إلى استمرارية مسار الحياة ، وعندما نتمعن بشخص بعمرال 21 – 49 ، فإننا سنعلم بأن بصمة الفروض الكارمية تبدئ بالتناقص ، حيث يبدأ تحقيق الكارما بالصعود للتخلص من ديونها. لأنه بهذا التوقيت وهذه المرحلة من العمر، ما طُبع بشخصية الإنسان في الفترات الثلاثة الأولى من حياته يجب أن يتحقق بالكارما ".

שטיינר, יחסי קרמה ב’, 2007, הרצאה 23, עמ’ 167-8 (شتاينر،علاقات كارمية ب،2007،محاضرة 23،ص8-167)

 

إن معاناة السقوط  في مرحلة الطفولة والمراهقة تُفرض على الشخص ، ومن سن 21 فصاعدًا يتخذ القرارات بنفسه ، وهي التي ستسبب لاحقاً له معاناة متعلقة بالفرض الكارمي ، بالطبع دون أن يدرك بأنه هو نفسه تسبب بذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. سيقوم الشخص "بدعوة" الأحداث أو الأشخاص لحياته والذين من خلالهم سيتم تحقيق الكارما الخاصة به مرارًا وتكرارًا.

 

حدث السيرة الذاتية (متابعة)

في سن المراهقة ، اكتسبت هنيا مهنة أكاديمية مرغوبة ومحترمة، وفي سن ال 28  واجهت قرارًا مصيريًا يقتضي بمغادرة وطنها والهجرة إلى إسرائيل. في ذلك الوقت بالتحديد ، انفصلت عن زوجها الأول الذي أهتم بها وأعالها لعدة سنوات.

عندما وصلت إلى دولة إسرائيل ، لم تنجح بالعثور على وظيفة تتناسب مع مهاراتها ، واضطرت للعمل كحاضنة بأسرة محلية.

هذا العمل كان أدنى من مؤهلاتها الأكاديمية ، ولم تشعر هنيا من خلاله بالإكتفاء من الناحية النفسيه والإقتصاديه ومن ناحية مستواها الأكاديمي، لقد تغير مستوى المعيشة الذي اعتادت عليه ، وواجهت هنيا مرة أخرى سقوط ومعاناة وإذلال والذين ميزوا حدث طفولتها. هذه المرة هي من "تسببت لنفسها" بهذاالسقوط ، من خلال قرارها الهجرة إلى دولة إسرائيل.

ولقد تكررت أحداث من هذا النوع مرارًا وتكرارًا في حياة هنيا، وفقط ابتداءً من سن ال 41  وبأعقاب عمل واجتهاد توعوي- روحاني على سيرتها الذاتية ، وبعد أزمة نفسية حادة متزامنة مع مرض جسدي ، بدأت هنيا في ربط الخيوط بين أحداث حياتها ، وفحصها من منظور الفرض الكارمي وتحقيقه. وهكذا، اكتسبت الأحداث معنى أكبر، مما ساعد هنيا على الخروج من أزمتها التي وقعت فيها.

يجدر التنويه بأنه من الممكن أن يكون تراجع وعدم قدرة إحتمال لدى الانسان خلال التحقّق الكارمي. بما يخص حالة هنيا ، كان من الممكن أن تكون إحدى الطرق للتهرب من الكارما هي العودة إلى وطنها، لكن هنيا اختارت البقاء في البلاد والتأقلم بالرغم من صعوبة الصمود، ولكنها نجحت في المضي قدماً إلى المرحلة التالية.

عادةً ما يكون قرار المضي قدمًا مرتبط بالانفصال عن الماضي، كثيرون من لا يجتازون هذه العتبة، لأن الانفصال غالبًا ما ينطوي على قدر كبير من المعاناة، هناك إغراءات بالعودة إلى العالم المألوف والعلاقات السابقة. بينما الأشخاص الذين لديهم مهمة روحية  فإنهم سيجتازون هذه العتبة.

في قصة لوط بالكتاب المقدس ، يأمر الله لوط وعائلته ألا ينظروا للخلف إلى سدوم المدمرة ؛ لم تستطع زوجة لوط من ضبظ نفسها ونظرت إلى الخلف فلاقت حتفها على الفور. 

17وَمَا إِنْ أَخْرَجَاهُمْ بَعِيداً حَتَى قَالَ أَحَدُ الْمَلاكَيْنِ: «اُنْجُ بِحَيَاتِكَ. لَا تَلْتَفِتْ وَرَاءَكَ وَلا تَتَوَقَّفْ فِي كُلِّ مِنْطَقَةِ السَّهْلِ. اهْرُبْ إِلَى الْجَبَلِ لِئَلّا تَهْلِكَ» . (…) 24  فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتاً وَنَاراً، مِنْ عِنْدِهِ مِنَ السَّمَاءِ. 25وَقَلَبَ تِلْكَ الْمُدُنَ وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا، وَالسَّهْلَ الْمُحِيطَ بِها وَكُلَّ مَزْرُوعَاتِ الأَرْضِ. 26وَتَلَفَّتَتْ زَوْجَةُ لُوطٍ السَّائِرَةُ خَلْفَهُ وَرَاءَهَا، فَتَحَوَّلَتْ إِلَى عَمُودٍ مِنَ الْمِلْحِ. التكوين 19


هنالك أشخاص لا يثابرون ولا يجتازون هذه العتبة ، ومع ذلك يواصلون حياتهم الخارجية بنجاح  كأشخاص نشيطين وأصحاب مواقف. على الرغم من أنهم مزدهرون من ناحية دنيوية ، إلا أنهم موجودين بمسار تراجعي من ناحية روحانية ، وسوف يظهر هذا في السنوات الأخيرة من حياتهم.

" كنت مهتمًا على الدوام بالتطور الروحي للبشر. عندما أنظر إلى الكثيرين الذين عاشوا حياة إبداعية في سنوات حياتهم الأولى، والذين قد أثاروا إعجاب معاصريهم ، ربما كشعراء شباب أو فنانين على مستوى ما ، عندما كانوا بسن ال 27 عامًا قيل لهم:  "يا لها من موهبة رائعة، وبهذا قد أضحوا مسنين . فبعد هذا الأداء الشعري والفني الزاخر ، جف النبع ودُمِّر، ولم يُعتبروا بعد كالسابق بالمستوى الذي حصلوا فيه على سمعة حقيقية

 ( …)

إن الحياة في عصرنا تضج بهكذا مآسي ، وهناك الكثير بداخلنا لا يصمد أمام اختبار السنين. ففي مرحلة المراهقة هنالك الكثير من المُثل العليا ، ولم يتبقى لجيل الشيخوخة إلا القليل، لذلك يجد كبار السن بأن الدعم بالإعانة الممنوحة من الدولة ، يفوق القوة الداعمة من الحياة نفسها، إنهم بحاجة إلى الخير من الخارج ، لأنهم لا يستطيعون إيجاد ما يقربهم الى المرتبة الروحية الأولى والتي تمد الإنسان بالقوة في الجزء الثاني من حياته ".

שטיינר,יחסי קרמה ב’, 2007, הרצאה 23, עמ’169-70 (شتاينر،علاقات كارمية ب، محاضرة23،ص70-169)


إن الشخص الذي تحمل المعاناة ، يصل الى وضع يتوقف فيه عن محاربة الفرض الكارمي الخاص به. على سبيل المثال ، قد يوافق على أن يكون "في مكان متدني" دون أن يحاول الخروج من هناك.

غالبًا ما تؤدي الموافقة والتنازل والتضحية الطوعية إلى ترتيب الأمور بحيث لا يضطر الشخص إلى التنازل فعليًا. ومع ذلك ، لم يعد يعلّق أهمية كبيرة عليهم. 

 

التحقُّق/الوفاء الكارمي والأخلاقبيرسيفال

 أحيانًا يكون التحقق الكارمي مخالفًا للقوانين الأخلاقية المقبولة. مثال على ذلك قصة الفارس بيرسيفال ، الذي تعد شخصيته نموذجًا أوليًا للرجل المعاصر ، الذي يمر في حياته برحلة تدريب للتطور والاستكمال.

وُلد بيرسيفال لأم قد أخفت عنه حقيقة أنه فارس ، لأنها أرادت ان تمنع عنه مصير والده الأسطوري السير لانسلوت الذي قُتل في المعركة. حتى سن الخامسة عشرة ، نشأ بيرسيفال مع والدته ومجموعة من النساء في الغابة ، واللاتي ربينه بتفانٍ وحب كبيرين، لم يسمع بيرسيفال بمؤسسة الفروسية ولم ير فرسانًا في حياته.

في يوم من الأيام ، التقى بمجموعة من الفرسان والذين كانوا يعبرون الغابة، فدُهش لمظهرهم البطولي وقرر أن يصبح فارسًا، فانطلق في رحلة تنشئة دون أن يقصد ذلك حقاً. بعد أيام قليلة من رحيله ، انهارت أمه الحبيبة وتوفيت. كما أنه ارتكب في طريقه لتحقيق مصيره وعن غير قصد العديد من الأعمال غير الأخلاقية، وأكبرها كان أنه مرَّ على أنفورثس – ملك الكأس المقدسة (الكأس) والذي يعاني من مرض عضال – دون أن يهتم به ودون ان يطرح عليه السؤال الذي كان من شأنه أن ينقذه من عذابه.      

رحلة التنشئة أوالتدريب لبيرسيفال كانت طويلة وشاقة ، وفي نهايتها يقوم بطرح السؤال ويصبح ملك "الكأس المقدسة".

هنيا كذلك الأمر تركت ورائها زوجًا كان معيلاً لها ماديًا ونفسيا لسنوات طويلة ، ووالدين كبار السن قد أحبوها، فبدافع الضرورة قررت هنيا مغادرة ماضيها دون عودة. 

أثناء تحقّق الكارما ، يمكن للمرء أن يُبرر نفسه ويعتقد أن "الغاية تُبرر الوسيلة" دون الشعور بالسوء الذي يفعله تجاه الآخر. لكن وصمة الشر أو السوء لا تظهرويجب حلها بهذا الوقت أو بعد حين.

عندما لا يعي الانسان  تدني الأخلاق الذي يصاحب أفعاله المفروضة خلال تحقُّق الكارما فإنه لا يختبر الألم الذي يسببه للآخر ولا يصحح أفعاله. في هذه المرحلة  " ينحدر " الصراع بين التحقق الكارمي والأخلاق وينتقل إلى الجسد، فيتجلى ذلك في الإصابة الجسدية أو المرض.

مثال على ذلك نجده في الكتاب المقدس لدى أبونا يعقوب ، الأب الجسدي والروحي للأمة العبرية. فمن أجل أن يحقق رسالته ، كان مضطرا أن يسلب البكورية بطريقة الغش من أخيه البكر "عساب" ، متسببا له بظلم وألم شديدين، زد على ذاك بسبب تصميمه للوصول إلى هدفه قام بخداع "لابن" والد زوجاته والحصول منه على الكثير من الممتلكات.

انعكست نتائج أفعال يعقوب أيضًا في جسده، ففي طريق عودته إلى أرض إسرائيل  تصارع مع الملاك،حيث ضربه الملاك واصابه بفخذه.

30 وَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ فَنِيئِيلَ (وَمَعْنَاهُ: وَجْهُ اللهِ) إِذْ قَالَ: «لأَنِّي شَاهَدْتُ اللهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ وَبَقِيتُ حَيًّا». 31 وَمَا إِنْ عَبَرَ فَنِيئِيلَ حَتَّى أَشْرَقَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَسَارَ وَهُوَ عَارِجٌ مِنْ فَخْذِهِ. التكوين 32

من المهم أن ننوه بأن التحقُّق الكارمي يتطلب أحيانًا سلوكًا غير أخلاقي ، ومع ذلك يجب على الشخص أن يدفع ثمن سلوكه هذا.ففي سيرة حياة هنيا ، يمكن الملاحظة أنها في سن الحادية والأربعين أصيبت بانزلاق غضروفي أصابها بالشلل لعدة أشهر، في هذا الوقت أضطرت أن تستلقي وهي متألمة وعاجزة، من هنا بدأت رحلتها الروحية الواعية.

 

التضحية

يتطلب تعديل الفرض الكارمي تضحية، بحيث تكون التضحية باستعدادنا لأن نكون في موقف حاولنا تجنبه خلال حياتنا . على سبيل المثال ، بالإنفصال المتعمد أو في الموافقة على "التقلّص" بكل أشكاله، فمن دون تضحية لا يمكن أن أن يحصل تحول نفسي-روحاني. بالإضافة إلى ذلك ، سيستمر الفرض الكارمي أحيانًا حتى الموت.

إن الموافقة لتقديم تضحية تمكننا من الازدهار الروحاني. في بعض الأحيان ، إذا تم الاستعداد للتضحية بطريقة حقيقية بدون مراوغة ووجود رغبة في الحصول على مكافأة ، ستكون التضحية في النهاية غير مطلوبة.

القصة النموذجية للتضحية تم وصفها في قصة أُضحية إسحاق، ففي النهاية – بفضل استعداد إبراهيم للتضحية بأغلى شيء عنده – لم تُطلب منه التضحية بالفعل.                                     

 

print