أورنا بن دور

ترجمت: سهى ثابت حلبي.

سن 33 هو نقطة تحوّل حاسمة في سيرة יلإنسان. هنا تكمن بذرة المستقبل. تبدأ عيون الإنسان الروحية بالانفتاح على كارما مستقبله، على الحقيقة، على كيانه الروحي.

في سن 33، يحدث حدث خاص، هام، محدد ومميز في حياة الانسان.

في مقال سابق، "العمر 9 من منظور السيرة الذاتية"، قيل أنه نتيجة للحدث الهام الذي يحدث في سن التاسعة، يختار الطفل أن يعيش حياته في حين يتخلى عن جزء من كيانه الكليّ. يتم ذلك دون وعي حتى لا يشعر بالوحدة والخوف من الموت الذي ينشأ نتيجة الحدث الخاص بهذا العمر.

سن 33، كبذرة للمستقبل المزروعة في الخفاء، هو العمر الذي يمكن فيه لأي إنسان أن يتخلى عن دفاعاته وتفحّص حياته حتى الآن. السؤال الذي يواجهه إنسان في هذا العمر هو: هل يمكن أن أثق في السيرورة الجديدة الآخذة في البدء، وهل أجرؤ على اتباع الدافع الجديد للعمل؟

يدعو هذا العمر الإنسان إلى التأمل الذاتي حيث وكأنه يقول: "انظر، هنا تكمن بذرة لكيانك الكامل والحر. انتبه، من الآن فصاعدًا يجب أن تسعى جاهدا لمعرفة الحقيقة الكارمية عنك وعن الحياة، وهذا على حساب الأمان الوجودي وإرادة البقاء اللذان خدماك في النصف الأول من حياتك. حتى الآن كنت تتصرف من خلال البعد الذاتي،  النفسي، الدنيوي،  من خلال كيانك غير الحر – من كارما ماضيك. الآن يجب أن تبدأ في تحرير نفسك من كل ما يقيدك: الأحكام المسبقة، الأفكار الخاطئة، التفسير الخاطئ لأحداث القدر وإلقاء "شرّكَ" على اشخاص قريبين وبعيدين، لوم الآخر على ما يحدث لك وما إلى ذلك. كان هذا صحيحا في حينه، خدم أمنك الوجودي وبقائك الآمن في العالم.

من الان فصاعدًا، مطلوب منك أن تتخلى بشكل متزايد عن تماثلك القوي مع الكيان الدنيوي المادي والنفسي، ومع "الملكية" التي جمعتها خلال السنوات السابقة، عندما أسست حياتك الدنيوية على الأرض ".

صاغ كارل جوستاف يونج، الطبيب النفسي السويسري الشهير في القرن العشرين، مصطلح "برسونا" في السياق النفسي. وبخلاف الجوهر الأبدي للشخص، فإن البرسونا هي شخصيته. يمكن أن تكون البرسونا مهنة، مكانة، جنسًا، آراءًا، وأي شيء يحد من التطور الروحي للشخص في تطوره، وهو مجرد قشرة لذاته الروحية الحقيقية. كل ما يتماثل الإنسان واياه، مثل – "أنا محامٍ مشهور"، "أنا ثري"، وحتى: "أفتقر إلى قوة الإرادة"، "أنا مرفوض"، إلخ.

في منتصف حياته، يجب أن يعرف الإنسان شخصيته (البرسونا) ويتوقف عن التعامل معها كما لو كانت الذات الكاملة. يجب أن يبدأ في التخلي عنها تدريجيًا – بدايةً بينه  وبين نفسه، حتى لو لم يكن أمام العالم بعد. هذا لا يعني بالضرورة تغييرًا خارجيًا في طريقة الحياة، بل يعني تغييرًا داخليًا، والذي بدوره يقود الشخص إلى التغييرات الخارجية الضرورية.

 

التنازل العظيم لكارل غوستاف يونغ

في سن 33، تم دفن بذرة المستقبل في يونغ. اختار يونغ أن يكون صادقًا مع نفسه ومساره، وأن يبدأ في التخلي عن الأمور التي كانت ضرورية له في الماضي. كان الحدث الأكثر أهمية الذي يشير إلى بداية الانفصال هو عملية انفصاله عن "والده الروحي"، المحلل النفسي سيغموند فرويد.

في بداية حياته المهنية، تأثر يونغ بشكل كبير بفرويد، وكانت العلاقة الحميمة الشجاعة بينهما متبادلة. رأى فرويد فيه إبنٍ وريث. لاحقًا، أدار يونغ ظهره للأفكار التي كانت أساس نظرية فرويد. في حين كان يونغ "يسبح" مثل السمكة في العوالم الروحية منذ فجر طفولته، شعر فرويد بالخوف البدائي من كل ما يتعلق بعلم الغيب. لقد رأى أن الدافع الجنسي هو القوة الدافعة الرئيسية لدى الإنسان. على عكس يونغ، الذي كان شخصًا روحيًا ومتدينًا، كان فرويد ملحدًا وماديًا.

بالنسبة لـيونغ ، كان يمكن الوصول إلى عالم الروح مباشرة. ومع ذلك، ووفقًا للتطور البشري الصحيح ، قرر يونغ في سن مبكرة جدًا التخلي عن علاقته المباشرة بالعوالم الروحية، والالتزام بالعالم الدنيوي. وفقا له، كان لديه شخصيتان – شخصية أطلق عليها الشخصية رقم 1، الشخصية الدنيوية. الأخرى، شخصية رقم 2، الشخصية ذات الصلة بعالم الروح. بشكل حدسي، من أجل تجنب تعريض روحه للخطر، شعر أنه يجب عليه أولاً أن يؤسس نفسه، ويتجسد كمواطن على الأرض.

الحدث الذي مر به في سن 33، يرمز إلى عودته إلى جوهره الروحي. في كتاب سيرته الذاتية: "ذكريات، أحلام، أفكار" ، يصف يونغ تجربة معينة مر بها مع فرويد، والتي شكلت بداية الفصل المؤلم والضروري بينه وبين الشخص الذي كان بالنسبة له مثالاً أعلى في الجزء الأول من حياته.

"… خلال الفترة التي واصل فيها فرويد موقفه الازدرائي تجاه علم التخاطر، مررت بتجربة غريبة. كان الأمر كما لو أن الحجاب الحاجز الخاص بي قد تحول إلى حديد مبيّض – قبو ساخن. وفي نفس الوقت، سُمِع ضجيج عالٍ في خزانة الكتب الموجودة خلفنا، لدرجة أننا كلانا كنا مرعوبين من أن خزانة الكتب قد تنهار علينا. قلت لفرويد: "هذا هو، هذا مثال على ما يسمى بظاهرة التخارج التحفيزي."

قال: "أوه حقًا، هذا كلام فارغ".  أجبته: "بالتأكيد لا". "أنت مخطئ يا أستاذ. ولتأكيد ادعائي، أتوقع الآن أن تظهر رسالة أخرى من نفس النوع في لحظة!". في الواقع، بينما كانت الكلمات على طرف لساني، جاءت نفس الضوضاء من رف الكتب.

الآن لا أفهم ما الذي جعلني متأكدًا جدًا. لكنني علمت بما لا يدع مجالاً للشك أن الرسالة ستظهر مرة أخرى. ارتد فرويد عني في خوف. لا أعرف ما الذي دار في ذهنه، أو ما معنى نظرته. على أي حال، زعزع هذا الحادث ثقته بي، وشعرت أنني قد جرحته. لم نناقش هذا الحدث مرة أخرى. كان عام 1909 مصيريًا لصداقتنا ".

يونغ ، ذكريات، أفكار، أحلام، ص 151-152

كانت هذه أول بذرة للتحول الذي حدث ليونغ البالغ من العمر 33 عامًا. في هذا العمر لم يكن قد خرج بعد ضد فرويد علانية، والانفصال النهائي بينهما حدث فقط بعد أن نشر يونغ كتابه الأول.

حدث آخر وقع في نفس السياق، كان تبادل الأحلام بين يونغ وفرويد. كشف كل منهما عن حلمه للآخر، من أجل الحصول على مساعدة في تحليل الحلم.

"حلم  فرويد حلمًا – لا أعتقد أنه من اللائق عرض المشكلة المرتبطة به. لقد فسرته بأفضل ما يمكنني، لكني أضفت أنه يمكن الاستفاضة في التفسير لو كان فرويد على استعداد للكشف عن مزيد من التفاصيل عن حياته الخاصة. ردا على ذلك، ألقى فرويد عليّ نظرة غريبة – نظرة تعبر عن شك شديد. ثم قال: "لا أستطيع المخاطرة بسلطتي"! في تلك اللحظة فقدها تمامًا. علقت هذه الجملة في ذهني ومعها تم تحديد مصير صداقتنا. وضع فرويد السلطة الشخصية فوق الحقيقة ".

يونج، ذكريات، أفكار، أحلام، ص 154

في أعقاب حلمه وحلم فرويد، أدرك يونغ أن صداقتهما قد انتهت.

"كان هناك القليل من القواسم المشتركة بيني وبين فرويد. كانت الغاية من كياني كله البحث عن شيء لم يكن معروفًا بعد، وله القدرة على إعطاء معنى للحياة ولأساها، في حين أن كل ما سعى إليه فرويد دائمًا، حسب كلماته الخاصة، كان: "تحويل المعاناة العصابية إلى معاناة محتملة."  لم يعنى فرويد أبدًا بمسألة معنى الحياة".

يونج، ذكريات، أفكار، أحلام، ص 161

 

في النهاية ، ما الذي يهم إذا أصبحت أستاذاً أم لا؟

حدث انفصال يونغ النهائي عن فرويد مع نشر كتاب تضمن مفاهيم يونغ الدينية العميقة، ودمج فيه امكانية فحص الأساطير كبنية تحتية مشتركة لأرواح البشر. ناقض هناك مفاهيم فرويد فيما يتعلق بسفاح القربى، وفحص الظاهرة كرمز روحي (كان الفراعنة، على سبيل المثال، يتزوجون من بناتهم من أجل الحفاظ على نقاء سلالة الانسان-الاله، وعدم الاختلاط بالبشر الأدنى منزلةً).

تم الإعلان عن كتاب يونغ على أنه هراء، وتخلى عنه أصدقاؤه وتم استنكاره باعتباره صوفيًا – وهي كلمة مهينة في ذلك الوقت. كان هذا هو الثمن الذي دفعه مقابل ولائه لحقيقته. في الوقت نفسه، تخلى أيضًا عن مسيرته الأكاديمية:

"بوعي واضح وتعقل، تركت مهنتي العلمية. شعرت أن شيئًا كبيرا كان يحدث لي، وألقيت بحملي على ما بدا لي أكثر أهمية في مواجهة الأبدية. كنت أعلم أن هذا سيملأ حياتي ومن أجل هذا الهدف كنت على استعداد للمخاطرة بكل شيء.

في نهاية الأمر، ما همني إذا كنت سأصبح أستاذاً أم لا؟ بالتأكيد أسفت للتخلي عن ذلك. ندمت لأنني لم أتمكن من إكراه نفسي على التعامل مع مادة مفهومة للجميع. حتى انه كانت هناك لحظات تمردت بها على قدري. لكن هذه كانت مشاعر عابرة ولم أستمع إليها. كان الشيء الآخر مهمًا للغاية. وإذا أصغينا إلى ما يوجهنا اليه كياننا الداخلي ويسعى جاهدا من أجله، فسوف يتلاشى الألم. لقد اختبرت هذا مرارًا وتكرارًا ، ليس فقط عندما تخليت عن منصبي الأكاديمي ".

يونج، ذكريات، أفكار، أحلام، ص185

الثمن المطلوب منا دفعه بدءًا من سن 33 من أجل العودة إلى كياننا الروحي، هو ثمن الألم الذي ينطوي عليه ترك هويتنا الدنيوية السابقة، والتي خدمتنا بأمانة حتى الآن.

إذا كان ثمن البقاء في الأعمار المبكرة هو التخلي عن الكيان الروحي – فإن بدءًا من منتصف العمر، سيكون السعي وراء الحقيقة حول ذات المرء ومصيره كمنارةٍ ترشد  الإنسان الذي يسعى إلى التطور. الآن، اكتشاف الحقيقة أهم من الحاجة إلى البقاء، والألم ثمن يستحق أن يُدفع وأن يحتمل بفخر. في بعض الأحيان، ينطوي الولاء للحقيقة أيضًا على إعادة المشاعر المؤلمة التي تم التخلي عنها في الطفولة ، لأنها كانت تهدد وجودنا.

"علمت أن كل هذا كان محكومًا عليه بالفشل، وكان علي أن أصر على رأيي. لقد اتضح لي أن الفصل "الضحية" يعني تضحياتي. وعندما وصلت إلى هذا الإدراك، استطعت العودة للكتابة، على الرغم من أنني كنت أعلم أن أفكاري لن تحظى بالقبول ".

يونج، ذكريات، أفكار، أحلام، ص163

على عكس توقعاته المتشائمة في ذلك الوقت، لاقت أفكار يونغ رواجا كبيرا وتقديرًا لدى المجتمع السيكولوجي، ويعتبر حتى يومنا هذا أحد الأطباء النفسيين الأكثر إبداعًا وغزارة.

من المفارقات، أن التفاني في الوصول الى الحقيقة قد يعيد إلينا كل الأشياء التي تخلينا عنها – المكانة، التقدير، المال – ولكن هذه المرة ليس كأهداف في حد ذاتها، ولكن كمنتج ثانوي، كنوع من النعمة والهبة مقابل تفانينا للحقيقة، بشرط أن تكون وسيلة لخدمة العالم وليس لتمجيد الذات،  الأنانية والمتعة.

print